أحكمت (شامة) عقدة منديل رأسها فوق جبينها،واستأنفت تزيين صينية السمك
بعناية ،كانت سيدة أربعينية،ذات وجه مكتنز،وقامة قصيرة،مسحت قطرات العرق
بذراعها بحدة،رفعت بصرها إلى الساعة،وشرعت في تحريك القدر،وضعت فوقه غطاءه
بقوة ،أدخلت صينية السمك في الفرن وتمتمت بغيظ :
_لقد اقترب موعد الغذاء ولا تزال لدي أعباء كثيرة،ولست بحاجة إلى انتقادات قاسية منه..كم هو سهل إملاء الأوامر،ليتنا نتبادل الأدوار يوما علّه يدرك ما أعانيه..
_لقد اقترب موعد الغذاء ولا تزال لدي أعباء كثيرة،ولست بحاجة إلى انتقادات قاسية منه..كم هو سهل إملاء الأوامر،ليتنا نتبادل الأدوار يوما علّه يدرك ما أعانيه..
في خضم صفير القدر وصوت المذياع،تناهى إلى سمعها صوت طرقات عنيفة،جففت
يديها ورمت الفوطة فوق كرسي،هرولت لتفتح الباب..فوجئت بتلك المرأة ذات
الأوشحة المتعددة فوق رأسها والحزام الطويل في وسطها تبتسم ابتسامة ممطوطة
،تهم باستعطافها كما اعتادت دوما، لكن (شامة) عبست في وجهها،وصفقت الباب
بعنف مقاطعة إياها :
_عودي في وقت آخر..!
اندفعت ابنتها (هدى)ذات الأربعة عشر ربيعا نحوها قائلة :
_من يا أمي؟
أجابتها والدتها بحنق :
_ومن غيرها إنها متسولة الملابس التي لا تخجل نفسها،ولا تمل من ترديد قصتها الوهمية !
ردت الابنة :
_لدي بعض الكنزات والأقمصة لم أعد أرتديها ،هل يمكنني جلبهم لها..؟
صرخت (شامة) في وجهه ابنتها :
_هل تظنين أنها بحاجة إليها حقا؟ عودي إلى كتبكِ ودعكِ منها،يكفي أنني صدقتها يوما وأفرغت نصف الدولاب من أجلها،ثم فوجئت بها تبيعها بأبخس الأثمان في السوق..
عادت تستأنف تحريك القدر وتغسل الأواني،سقط صحن زجاجي من يدها،انحنت تجمع شظاياه بغضب
،هزت رأسها حين سمعت كلمات معتادة لطالما أشعرتها بالحنق..
_خبز..خبز يابس..!
جرت نحو الباب وفتحته، همت بإلقاء وابل من الشتائم في وجه ذلك المتسول الأدرد ،لكنها تسمرت أمام كيس كبير معقود بشريط مطاطي أمام شقتها،شردت قليلا، ثم ابتسمت بخبث وركلت الكيس حتى تدحرج على الدرج واستقر أمام عتبة المنزل..
اندفعت نحو النافذة ، أطلت برأسها ونادت الرجل، وضع يده اليمنى على عمامته الصفراء وحمى عينيه بيده اليسرى من أشعة الشمس،وفغر فمه الأدرد ببلاهة،فأشارت إلى الكيس وقالت :
_إنه لك..خذه..!
تهلل وجهه وألهج لسانه بسيل من الدعوات رافعا يديه إلى السماء،واندفع نحو الكيس بسرعة البرق يعانقه ويضعه في عربته القصديرية..!
تنحى جانبا،وهمّ بفتح الكيس،رفع رأسه يراقب النوافذ باحثا عن عيون متلصصة،ثم انحنى يفتحه بلهفة،ابتسم مفكرا وهو يتأمل محتوياته..
_قمصان..معاطف..سترات وفساتين،إن قمت ببيعها بخمسة دراهم للقطعة الواحدة سأحصل على مبلغ جيد،أغلق الكيس وتنهد بارتياح،فكر ثانية..
_لا يزال الوقت مبكرا بإمكاني الحصول على المزيد من الخبز اليابس قبل أن أعرج إلى السوق..
أمسك بعمود العربة ودفعها أمامه وصاح مجددا:
_خبز،،خبز يابس..!
سقط على رأسه فجأة كيسا صغيرا تلقفه بذراعيه،ورفع بصره إلى الأعلى حيث يطل فتى يبتسم بمكر ،بادله الابتسام وصاح:
_الله يرحم الوالدين..! عبس وهو يغمغم ساخطا :
_صبي أحمق!
صاحت عجوز من أعلى سطح أحد المنازل:
_توقف يا صاحب العربة،لدي شيء للبيع..!
أكمل طريقه متظاهرا بعدم سماع ندائها،وتأفف مفكرا..عجوز بخيلة لا خير يرجى من وراءها،.
ففي كل مرة تجعله ينتظر طويلا لتعرض عليه إبريقا مكسور اليد أو قدرا بلا غطاء وتطلب ثمنا باهضا بالنسبة إليه،وبعد مساوامات كثيرة تعيد أغراضها إلى بيتها معللة ذلك بأنها عدلت عن بيعها..
تعالى فجأة صياح وعويل المرأة ذات المناديل المتباينة الألوان فوق رأسها ،لطمت خذيها وصاحت بهياج شديد:
_كيسي كيسي! أين اختفى كيسي..؟
انحنت تبحث تحت السيارات وخلف أبواب المنازل المفتوحة،وتحدق في الدكاكين المجاورة ،وفي وجوه الصبية الذين يركضون،ثم جلست في عتبة أحد المنازل تلطم ركبيتيها وتولول بصوت خفيض:
_يا إلهي،كدت أنتهي،لم يكن ينقصني سوى قطعة واحدة،والآن عدت إلى نقطة الصفر،،
صرت على أسنانها غيظا وفكرت،
_لا تهمني الخمسون درهما لكن (نعيمة) اللئيمة ستسبقني وتأخذ مكاني في السوق،وفي نهاية النهار ستطرق باب الكوخ،لتسخر مني كالعادة،وتقول أنها ربحت الكثير حين غبت عن السوق،وستمضي تتبخترإلى كوخها وهي تدعو الله أن يبعد عنها الحساد ووجوه النحس..
بعد لحظات أقفل المتسول راجعا، فمرّ من أمامها دافعا عربته القصديرية ببطء،يترنّم بأغنية شعبية وعلامات السرور بادية عليه ..حانت منها إلتفاتة إلى عربته القصديرية ،فصعقت وصرخت بغضب :
_أيها اللص البائس..!
هاجمته بشراسة، وأمسكت بياقة قميصه وهي تخنقه وتصفعه الصفعة تلو الأخرى،تراجع مذهولا من هجومها المفاجئ وعبثا حاول التملص من قبضتها..بعد جهد جهيد استطاع الافلات منها وهو يحتج بكلماته الغير المفهومة..
_لا والله لست بسارق ..! لقد منحتني إياه سيدة كريمة..! أنت التي أعمتك الغيرة وأردت الاستيلاء على كيسي..!
عادت تهاجمه من جديد وهي تصيح بصوت عالٍ:
_ألا تخجل من نفسك أيها اللص الأدرد الكذاب،لا تجيد حتى نطق الكلمات لكنك تجيد السرقة!
تدخل المارة وحاولوا تهدئتها وعبثا حاولوا استيعاب المشكلة،لكنها كانت مثل نمرة متوحشة،تنتظر أول فرصة للإنقضاض على فريستها،،شعر صاحب العربة بالذعر،فسارع إلى إلقاء الكيس أرضا ودفع عربته وفرّ بعيدا عن براثنها..
كانت الأم تطل عليهما خلسة من وراء ستارة النافذة، وتكتم قهقهاتها بيدها،حتى اغرورقت عيناها بالدموع من جراء الضحك ..جذبتها ابنتها بغتة من ثوبها وسألتها بحزن :
_لماذا أوقعت بينهما يا أمي؟
أجابت الأم ساخرة :
_حتى يكفّ هؤلاء الحمقى عن إزعاجنا، فتلك المتسولة تأتي كل يوم ,تستجدي الملابس بإلحاح مقيت ،وكأننا نبتاعها يوميا،وذلك الأدرد الأحمق يأتي مرة ويغيب مرات حتى يصبح الخبز الجاف عفنا فلا يصلح لشيء..!
هزت الابنة كتفيها بضيق وقالت :
_سامحكِ الله يا أمي!
أعادت (شامة) الستارة إلى مكانها،وهمّت بتأنيب ابنتها،لكنها سرعان ما شمت رائحة قوية،وضعت يدها على خدها وهرولت نحو المطبخ وهي تصرخ:
__يا إلهي ..لقد احترقت صينية السمك !
_عودي في وقت آخر..!
اندفعت ابنتها (هدى)ذات الأربعة عشر ربيعا نحوها قائلة :
_من يا أمي؟
أجابتها والدتها بحنق :
_ومن غيرها إنها متسولة الملابس التي لا تخجل نفسها،ولا تمل من ترديد قصتها الوهمية !
ردت الابنة :
_لدي بعض الكنزات والأقمصة لم أعد أرتديها ،هل يمكنني جلبهم لها..؟
صرخت (شامة) في وجهه ابنتها :
_هل تظنين أنها بحاجة إليها حقا؟ عودي إلى كتبكِ ودعكِ منها،يكفي أنني صدقتها يوما وأفرغت نصف الدولاب من أجلها،ثم فوجئت بها تبيعها بأبخس الأثمان في السوق..
عادت تستأنف تحريك القدر وتغسل الأواني،سقط صحن زجاجي من يدها،انحنت تجمع شظاياه بغضب
،هزت رأسها حين سمعت كلمات معتادة لطالما أشعرتها بالحنق..
_خبز..خبز يابس..!
جرت نحو الباب وفتحته، همت بإلقاء وابل من الشتائم في وجه ذلك المتسول الأدرد ،لكنها تسمرت أمام كيس كبير معقود بشريط مطاطي أمام شقتها،شردت قليلا، ثم ابتسمت بخبث وركلت الكيس حتى تدحرج على الدرج واستقر أمام عتبة المنزل..
اندفعت نحو النافذة ، أطلت برأسها ونادت الرجل، وضع يده اليمنى على عمامته الصفراء وحمى عينيه بيده اليسرى من أشعة الشمس،وفغر فمه الأدرد ببلاهة،فأشارت إلى الكيس وقالت :
_إنه لك..خذه..!
تهلل وجهه وألهج لسانه بسيل من الدعوات رافعا يديه إلى السماء،واندفع نحو الكيس بسرعة البرق يعانقه ويضعه في عربته القصديرية..!
تنحى جانبا،وهمّ بفتح الكيس،رفع رأسه يراقب النوافذ باحثا عن عيون متلصصة،ثم انحنى يفتحه بلهفة،ابتسم مفكرا وهو يتأمل محتوياته..
_قمصان..معاطف..سترات وفساتين،إن قمت ببيعها بخمسة دراهم للقطعة الواحدة سأحصل على مبلغ جيد،أغلق الكيس وتنهد بارتياح،فكر ثانية..
_لا يزال الوقت مبكرا بإمكاني الحصول على المزيد من الخبز اليابس قبل أن أعرج إلى السوق..
أمسك بعمود العربة ودفعها أمامه وصاح مجددا:
_خبز،،خبز يابس..!
سقط على رأسه فجأة كيسا صغيرا تلقفه بذراعيه،ورفع بصره إلى الأعلى حيث يطل فتى يبتسم بمكر ،بادله الابتسام وصاح:
_الله يرحم الوالدين..! عبس وهو يغمغم ساخطا :
_صبي أحمق!
صاحت عجوز من أعلى سطح أحد المنازل:
_توقف يا صاحب العربة،لدي شيء للبيع..!
أكمل طريقه متظاهرا بعدم سماع ندائها،وتأفف مفكرا..عجوز بخيلة لا خير يرجى من وراءها،.
ففي كل مرة تجعله ينتظر طويلا لتعرض عليه إبريقا مكسور اليد أو قدرا بلا غطاء وتطلب ثمنا باهضا بالنسبة إليه،وبعد مساوامات كثيرة تعيد أغراضها إلى بيتها معللة ذلك بأنها عدلت عن بيعها..
تعالى فجأة صياح وعويل المرأة ذات المناديل المتباينة الألوان فوق رأسها ،لطمت خذيها وصاحت بهياج شديد:
_كيسي كيسي! أين اختفى كيسي..؟
انحنت تبحث تحت السيارات وخلف أبواب المنازل المفتوحة،وتحدق في الدكاكين المجاورة ،وفي وجوه الصبية الذين يركضون،ثم جلست في عتبة أحد المنازل تلطم ركبيتيها وتولول بصوت خفيض:
_يا إلهي،كدت أنتهي،لم يكن ينقصني سوى قطعة واحدة،والآن عدت إلى نقطة الصفر،،
صرت على أسنانها غيظا وفكرت،
_لا تهمني الخمسون درهما لكن (نعيمة) اللئيمة ستسبقني وتأخذ مكاني في السوق،وفي نهاية النهار ستطرق باب الكوخ،لتسخر مني كالعادة،وتقول أنها ربحت الكثير حين غبت عن السوق،وستمضي تتبخترإلى كوخها وهي تدعو الله أن يبعد عنها الحساد ووجوه النحس..
بعد لحظات أقفل المتسول راجعا، فمرّ من أمامها دافعا عربته القصديرية ببطء،يترنّم بأغنية شعبية وعلامات السرور بادية عليه ..حانت منها إلتفاتة إلى عربته القصديرية ،فصعقت وصرخت بغضب :
_أيها اللص البائس..!
هاجمته بشراسة، وأمسكت بياقة قميصه وهي تخنقه وتصفعه الصفعة تلو الأخرى،تراجع مذهولا من هجومها المفاجئ وعبثا حاول التملص من قبضتها..بعد جهد جهيد استطاع الافلات منها وهو يحتج بكلماته الغير المفهومة..
_لا والله لست بسارق ..! لقد منحتني إياه سيدة كريمة..! أنت التي أعمتك الغيرة وأردت الاستيلاء على كيسي..!
عادت تهاجمه من جديد وهي تصيح بصوت عالٍ:
_ألا تخجل من نفسك أيها اللص الأدرد الكذاب،لا تجيد حتى نطق الكلمات لكنك تجيد السرقة!
تدخل المارة وحاولوا تهدئتها وعبثا حاولوا استيعاب المشكلة،لكنها كانت مثل نمرة متوحشة،تنتظر أول فرصة للإنقضاض على فريستها،،شعر صاحب العربة بالذعر،فسارع إلى إلقاء الكيس أرضا ودفع عربته وفرّ بعيدا عن براثنها..
كانت الأم تطل عليهما خلسة من وراء ستارة النافذة، وتكتم قهقهاتها بيدها،حتى اغرورقت عيناها بالدموع من جراء الضحك ..جذبتها ابنتها بغتة من ثوبها وسألتها بحزن :
_لماذا أوقعت بينهما يا أمي؟
أجابت الأم ساخرة :
_حتى يكفّ هؤلاء الحمقى عن إزعاجنا، فتلك المتسولة تأتي كل يوم ,تستجدي الملابس بإلحاح مقيت ،وكأننا نبتاعها يوميا،وذلك الأدرد الأحمق يأتي مرة ويغيب مرات حتى يصبح الخبز الجاف عفنا فلا يصلح لشيء..!
هزت الابنة كتفيها بضيق وقالت :
_سامحكِ الله يا أمي!
أعادت (شامة) الستارة إلى مكانها،وهمّت بتأنيب ابنتها،لكنها سرعان ما شمت رائحة قوية،وضعت يدها على خدها وهرولت نحو المطبخ وهي تصرخ:
__يا إلهي ..لقد احترقت صينية السمك !